الاثنين، 22 يونيو 2015

بقي ابن مخلد ... والإبداع في طلب العلم

بقي ابن مخلد ... والإبداع في طلب العلم

في إحدى البحوث الحديثة حول الظروف التي سادت حياة المشاهير قبل حصولهم على الشهرة تبين أن حوالي 82% من الأفراد الذين تمت دراستهم قد عايشوا عدداً من الراشدين في وقت مبكر من حياتهم و أن 68% ترعرعوا في ظل وجود بعض الراشدين الذين كانوا يعملون في مجالات يمكنها ان توصلهم إلى الشهرة ، و أن 63% منهم تعرفوا على مشاهير في مرحلة مبكرة من العمر.
و تبين في مستوى عمري آخر أن ما يزيد على نصف الحائزين على جائزة نوبل في العلم قد تعلموا على أيدي بعض من سبق لهم الحصول على هذه الجائزة ، و توحي هذه الحقائق بأن وجود من يقتدي بهم من المبدعين قد يكون أمرا جوهرياً بالنسبة لتطور العبقرية العلمية وﻫﺬا اﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ﻋﺒﺮ اﻷﺟﻴﺎل ﻗﺪ ﻻ ﻳـﺘـﻄـﻠـﺐ داﺋﻤﺎ اﻻﺗﺼﺎل اﻟﺸﺨﺼﻲ المباشر بين اﻷﺳﺎﺗﺬة اﻟﻨﺎﺿﺠـين وﺑين المعجبين اﻟﺼﻐﺎر  ؛ ﻓﺎﻟﻨﺸﺄة أو اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻓﻲ أزﻣﻨﺔ اﳊﻴﻮﻳﺔ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ أو اﻟﻔﻨﻴﺔ اﳉـﻤـﺎﻟـﻴـﺔ ﻓﻲ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺸﺨﺼﻲ ﻗﺪ ﺗﻔﻀﻲ ﺑﺬاﺗﻬﺎ إﻟﻰ اﻟﺘﻄﻮر اﻹﺑﺪاﻋﻲ .(1)
ـ بقي ابن مخلد ... نموذج للإبداع في طلب العلم :
بقي بن مخلد  ابن يزيد الأندلسي القرطبي، الحافظ، صاحب " التفسير " و " المسند "ولد في سنة 200هـ تقريبا، أو قبلها بقليل ، وكان يقول عن نفسه إني لأعرف رجلا، كان تمضي عليه الأيام في وقت طلبه العلم، ليس له عيش إلا ورق الكرنب الذي يرمي ـ الكرنب هو الملفوف ـ ، وسمعت من كل من سمعت منه في البلدان ماشيا إليهم على قدمي ! .
خرج بقي بن مخلد من الأندلس إلى بغداد، وكان همه و  بغيته ملاقاة الإمام أحمد بن حنبل ، قال: فلما قربت من بغداد بلغتني محنة الإمام أحمد ، وأنه ممنوع من التدريس و كذلك من الالتقاء بالناس ، فاغتممت غما شديدا، فنزلت بغداد، و استأجرت غرفة في فندق ، ثم أتيت الجامع وأنا أريد أن أجلس إلى الناس، فتوجهت إلى حلقة مكتظة بطلبة العلم ، فإذا برجل يتكلم في الرجال، فقيل لي: هذا يحيى بن معين عالم الجرح و التعديل .
ففرجت لي فرجة، فقمت إليه، فقلت: يا أبا زكريا: - رحمك الله - رجل غريب ناء عن وطنه، يحب السؤال، فلا تستجفني، فقال: قل ، فسألت عن بعض من لقيته، فبعضا زكى، وبعضا جرح، فأطلت في السؤال، فصاح أصحاب الحلقة: يكفيك - رحمك الله - غيرك له سؤال.
فقلت - وأنا واقف على قدم سؤالي الأخير : اكشف عن رجل واحد فقط عن : أحمد بن حنبل، فنظر إلي يحيى ابن معين كالمتعجب ، و رمقتني أعين الحضور بالتعجب و الاستغراب و ظل الجميع يترقب جواب ابن معين ،
 فقال لي: ومثلنا، نحن نكشف عن أحمد ؟ ! مثلي يُسأل عن احمد بن حنبل ؟ ذاك إمام المسلمين، وخيرهم و فاضلهم
فخرجت و قد عزمت على لقاء الإمام و الأخذ عنه مهما حدث فذهبت أستدل على منزل أحمد بن حنبل، فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي، فقلت: يا أبا عبد الله: رجل غريب، نائي الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال: ادخل الاصطوان أي صحن الدار ولا تدع أحدا يراك .
فدخلت، فقال لي: وأين موضعك ؟ قلت: المغرب الأقصى.
فقال: إفريقية ؟ قلت: أبعد من إفريقية، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية، بلدي الأندلس، قال: إن موضعك لبعيد، وما كان شئ أحب إلي من أن أحسن عون مثلك، غير أني ممتحن بما لعله قد بلغك.
و هنا يقوم بقي ابن مخلد بحيلة إبداعية تمكنه من لقاء الإمام و التلقي عنه يوميا دون أن يشعر به احد ، لقد سطر لنا بقي ابن مخلد لوحة رائعة في تجاوز التحديات و التحليق فوق العقبات بأفكار إبداعية تفتح لنا أبواب الممكن ،
يقول بقي ابن مخلد :فقلت للإمام : بلى قد بلغني أمر المحنه و لكن هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم فلا يعرفني أحد ، فإن أذنت لي أن آتي كل يوم في زي المتسولين ، فأقول عند الباب ما يقولون ، فتخرج إلي في صحن الدار ، فلو لم تحدثني كل يوم إلا بحديث واحد، لكان لي فيه كفاية.
فقال لي: نعم ، على شرط أن لا تحضر المجالس العامة حتى لا يكتشف أمرك .
فقلت: لك شرطك ، فكنت آخذ عصا بيدي ،وألف رأسي بخرقة مدنسة وسخة ، وآتي بابه فأصيح:الأجر - رحمك الله – و هو نداء المتسولين هناك ، فيخرج إلي، و يدخلني صحن الدار ثم يغلق الباب ويحدثني بالحديثين والثلاثة و الأكثر، فالتزمت ذلك حتى مات مسبب الفتنة ،و تغيرت الأحوال ، و ظهر أحمد بن حنبل، وعلت إمامته، وكانت يأتيه الناس من كل مكان و يكتظ مجلسه ، فكان يعرف لي حق صبري، فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي مكانا قربه و أجلسني معه ،ثم يقص على أصحاب الحديث قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة ، ويقرؤه علي وأقرؤه عليه. 

ـ محصلة :
ـ مصاحبة المبدعين من أفضل الوسائل التي تصقل و تنمي القدرات الإبداعية  .
ـ الإبداع يساعدنا في ابتكار وسائل جديدة و متنوعة و غير متوقعة لتذليل العقبات و تجاوز الصعوبات التي نواجهها أثناء طلب العلم  .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ كتاب العبقرية و الابداع و القيادة ، دين كيث سايمنتن ، ترجمة د. شاكر عبدالحميد ، ص 60 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق