السبت، 31 يناير 2015

(ثلاث كلمات حول الشأن التونسي) 1/2

(ثلاث كلمات حول الشأن التونسي)
الجزء الاول
الكلمة الاولى :قانون الاستدراج المباغتة :
لقد جرت سنة الله في خلقه ان يمهل الظالمين و يمد لهم مدا ، قال تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ...(75)) مريم ، حتى يأمنوا العذاب و يركنوا الى ما هم عليه من فساد ،  فيلبس الشيطان على الناس و عليهم شأنهم فيظنون انهم اقوم قيلا اهدى سبيلا فتتعاظم نفوسهم في نفوسهم و هم في ذلك غارين بإمهال الله غافلين عن قانون الاستدراج و المباغته ، الاستدراج الذي يمهل و لكنه لا يهمل و المباغتة التي تحيط بالظالمين فتقتلعهم من جذورهم، ثم تتركهم مبلسين ـ آيسين من كل خير ـ،  وقد ذكر المولى سبحانه و تعالى هذ القانون في قوله تعالى (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)) الانعام.
استدراج ثم مباغته فعن ابي موسى الاشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : (ان  الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم تلا قوله تعالى (كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)) هود  .
إن المولى سبحانه حذر عباده من هذا المصير المؤسف و امرهم باتباع الأحسن لدنياهم و آخرتهم و لكن ابى الظالمون الا كفورا قال تعالى :(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)) الزمر
و لقد تعجب سيد قطب ـ رحمه الله ـ من شأن البشر فقال:
وأعجب العجب في البشر أن يد الله تعمل من حولهم ، وتأخذ بعضهم أخذ عزيز مقتدر ، فلا يغني عنهم مكرهم وتدبيرهم . ولا تدفع عنهم قوتهم وعلمهم ومالهم . . وبعد ذلك يظل الذين يمكرون يمكرون ، ويظل الناجون آمنين لا يتوقعون ان يؤخذوا كما أخذ من قبلهم ومن حولهم ، ولا يخشون أن تمتد إليهم يد الله في صحوهم أو في منامهم ، في غفلتهم أو في استيقاظهم ، والقرآن الكريم يلمس وجدانهم من هذا الجانب ليثير حساسيتهم للخطر المتوقع ، الذي لا يغفل عنه إلا الخاسرون : قال تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ؟ (45)) ..
 (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ .... ) وهم يتقلبون في البلاد ، من بلد إلى بلد للتجارة والسياحة أو غير ذلك { ..... فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) } لله سبحانه و تعالى، ولا يبعد عليه مكانهم في حل أو ترحال .
{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) } فإن يقظتهم وتوقعهم و استعدادهم ـ أي الظالمين ـ لا يرد يد الله عنهم فهو قادر على أخذهم وهم متأهبون قدرته على أخذهم وهم لا يشعرون؟ ولكن ربكم ايها الناس رؤوف رحيم .
و رغم كل ذلك لا يزال الذين يمكرون السيئات لاجون في مكرهم سادرون في غيهم لا يثوبون ولا يتقون .(1)
الكلمة الثانية :الانتحار حرام :
استساغ البعض فكرة الانتحار بناء على النتائج الغير متوقعه لحادثة انتحار البوعزيزي في تونس و  قد جعل البعض تلك النتيجه سببا وجيها لأضفاء الشرعية على جريمة الانتحار و اعتبارها وسيلة مباحة مشروعة للتغيير، و في هذا التوجه مغالطة للشرع و العقل ، فالنتائج لا تعبر بالضرورة عن مشروعية الأفعال ، ان ذلك الانتحار لو انه لم يحدث تلك النتيجة لسمعت الفتاوى الواضحه في تجريمه و تحريمه من الفقهاء و العوام كذلك ! و لما اجترأ غيره على تلك الفعلة ، و يجب ان نكون على  ادراك ان الاسلام يشترط في احداث أي تغيير أن تكون وسائل التغيير مشروعة بنفس الدرجة التي يشترط فيها ان تكون اهداف و غايات التغيير مشروعة فمبدأ الغاية تبرر الوسيلة مرفوض في الاسلام ، وقد جاء في تحريم الإنتحار نصوص محكمة قاطعة صحيحه صريحه منها :
قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)) سورة النساء .
قال الشيخ الشعراوي رحمه الله : أي لا يقتل كل واحد منكم نفسه ، وهذا ما يفعله المنتحر .
و جاء في التفسير المنير للزحيلي : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ معناه في الظاهر النهي عن قتل المؤمن نفسه في حال غضب أو ضجر (وهو الانتحار).
ـ عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَل نَفْسَه بِحَدِيدَةٍ فحديدته في يَدِهِ، يَجَأ بها بَطْنه يوم القيامة في نار جَهَنَّمَ خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو مُتَرد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا". صحيح البخاري برقم (5778) وصحيح مسلم برقم (109).
ـ عن جُنْدب بن عبد الله البَجَلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان رَجُلٌ ممن كان قبلكم وكان به جُرْح، فأخذ سكينًا نَحَر بهَا يَدَهُ، فما رَقأ الدَّمُ حتى ماتَ، قال الله عز وجل: عَبْدِي بادرنِي بِنَفْسه، حرَّمت  عليه الْجَنَّة"صحيح البخاري (1364، 3463) وصحيح مسلم (113).
ـ الانتحار جريمه في حق الذات و سوء ظن بالخالق سبحانه و تعالى  :
الانتحار جريمة لا بد ان  تكون هذه المسألة واضحة ، ولا يقتل نفسه إلا إنسان وجد نفسه في ظرف لا يستطيع في حدود أسبابه أن يخرج منه ، فلم يستشعر وجود الله فقطع الاتصال به ثم اتخذ قراره على انه سدى مهمل ، و غفل عن قوله تعالى (ايحسب الانسان ان يترك سدى).
المؤمن لا يعزل نفسه عن خالقه؛ فساعة يأتيه ظرف فوق أسبابه ولا يقوي عليه فعليه أن يفكر : وهل أنا في الكون وحدي؟ لا ، إن لي ربّاً . وما دام لي رب فأنا لا أقدر وهو - سبحانه - يقدر ، وهنا يطرد فكرة الانتحار؛ فمن فقد أسبابه فعليه أن يتصل بأسباب السماء .
ثم يرد سؤال جوهري لِمَ يقتل الإنسان نفسه؟.
و هل أنت أيها الانسان من وهبت الحياة لنفسك؟ و هل يحق لك الاعتداء على نفسك اذا ما خالفتك الظروف ؟  إن واهب الحياة سبحانه و تعالى وحده فقط من له الحق في سلب الحياة من عبادة متى شاء و كيف شاء .(2)
ـ الحكم على المعيين بالجنة او النار :
و رغم تأكيدنا على حرمة الانتحار و عقوبته الواردة في النصوص عموما ، إلا أن هذا التعميم لا يقتضي تخصيص الحكم على المعينين ـ أي شخص بعينه ـ فلا يجوز ان نقول ان فلان بن فلان في النار لأنه انتحر و ذلك للأسباب التالية :
1.  الحكم على الناس بالجنة و النار ليس من شأن العباد  و انما هو شأن الخالق سبحانه فهو القائل سبحانه و تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)) النساء  ، عن خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء - امرأة من الأنصار بايعت النبي {صلى الله عليه وسلم} - أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة ً قالت فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} وما يدريك أن الله أكرمه فقلت بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما هو فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ، قالت ام العلاء : فوالله لا أزكي بعده أحداً يا رسول الله .
2.    عدم جزمنا بتمام قصد المنتحر على فعله فقد يكون اراد التهديد بالانتحار فسبقت يده او ارتبك فلم يستطع تدارك الامر .
3.  قد يكون المنتحر وقت اقدامه على الانتحاره فاقدا لأهليته بجنون طارئ او نحو ذلك ، او انه في حالة من عدم الادراك الكامل لما يفعله ، و قد ذهب جماهير الفقهاء الى عدم اعتبار طلاق الغضبان غضبا يفقده الادراك لإنعدام الارادة فكيف نحكم على شخص قد يكون وصل الى حالة من عدم الادراك بسبب غضب او حزن او جزع او غير ذلك و هذا الاحتمال وارد لكون الامر الذي يقدم عليه لا يطيقه و لا يجرء عليه عاقل .
4.  قد يحدث المنتحر توبة مقبوله قبل ان تبلغ روحه الحلقوم ، دون ان يشعر به الآخرون أو قد يكون ممن غفر الله له بمشيئته سبحانه قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) ) ، قال سبحانه:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) ) النساء.
و مما يؤكذ ذلك ما رواه الامام مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرٍ : أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِىَّ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ هَلْ لَكَ فِى حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ قَالَ حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبَى ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلَّذِى ذَخَرَ اللَّهُ لِلأَنْصَارِ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ مَعَهُ الطُّفَيْلُ وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ فَمَرِضَ فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ فَمَاتَ فَرَآهُ الطُّفَيْلُ فِى مَنَامِهِ فِى هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَهُ فَقَالَ لَهُ : مَا لِى أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَكَ؟ قَالَ قِيلَ لِى لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ فَقَصَّ الطُّفَيْلُ رُؤْيَاهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِى الصَّحِيحِ و البيهقي في السنن الكبرى و احمد في المسند .
و في الحديث ما يفيد عدم الجزم لقاتل نفسه بالنار و فيه جواز الدعاء للمنتحر .
ـ قال الامام النووي : من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار بل هو فى حكم المشيئة .(3)
ملاحظة :  يجب ان نفرق بين من قتل نفسه احتجاجا على الظلم ، و بين من قتله الظلمة لأنه احتج على الظلم فالأول منتحر و الثاني شهيد و شتان بين الحالين .
اما الكلمة الثالثة فسنتناولها في الجزء الثاني من الموضوع
ــــــــــــــــــــــ
في ظلال القرآن لسيد قطب تفسير سورة النحل الايات من (45) ـ (47) بتصرف .
تفسير الشيخ الشعرواي بتصرف .
شرح صحيح مسلم للنووي ج 2 ص 131و 132 .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق