الاثنين، 23 مارس 2015

بين الجسد و الروح (1)

 بين الجسد و الروح (1)
ـ بين الجسد و الروح :
شاءت إرادة الله أن لا نرى الروح و لكننا نرى تجلياتها في القلب الذي تعمره ...و العقل الذي تسكنه ... و اللسان الذي تنطق به ... إننا نرى الوعاء الذي يحوي تلك النفخة العلوية المقدسة...إننا نرى الجسد الذي ارتبط بالتراب أصلا و بالأرض وطنا و بالقبر مسكنا ، الجسد الذي نشأ حصيلة تفاعل عناصر من الطبيعة متمثلة في التراب و الماء فكانت طينا لازبا ،قال تعالى ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين) سورة ص(71) ، و قال المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله : (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ ...) رواه الترمذي (2955) وأبو داود (4693) وصححه الترمذي والألباني في "صحيح الترمذي" .
 لقد شاء الله  عز وجل أن يختص هذا الجسد الأرضي الطيني الضعيف بنفخة علوية طاهرة ترفعه و تسموا به إلى مصاف الملائكة الكرام حينا... ثم تسموا به أخرى حتى تسجد له الملائكة تكريما و تشريفا قال تعالى( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين *) سورة ص (71،72) ، كما شاءت إرادته سبحانه أن تظل تلك النفخة العلوية حبيسة الجسد الطيني يهبط بها في أحيان كثيرة إلى أسفل سافلين ... قال تعالى في سورة التين (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4)  ثم رددناه أسفل سافلين (5)( ، و قال سبحانه عن قابلية النفس لتفاعلات الفجور و التقوى في سورة الشمس ( و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها) و النفس التي أقسم بها الباري سبحانه في الآيات الكريمة ... تأتي على عدة معاني من أبرزها الروح كما تأتي بمعنى ذات الإنسان كما ذهب إلى ذلك بعض علماء اللغة و التفسير و سنتناول مصطلح النفس باعتباره تعريف لذلك المزيج الذي يجمع بين الأرض بكل مكوناتها و جواذبها و حفرها و بين السماء بسموها و طهرها و نقائها و قداستها ، انه الإنسان ... ذلك المزيج  البديع الذي حير العلماء كما حير العقلاء  و سنقف بعض الوقفات حول ذلك المزيج بتفاعلاته و نتلمس مواطن التركيز في التعامل معه كجسد و روح من خلال الوقفات التالية  :
 ـ بين متطلبات الجسد و أشواق الروح:
من المهم بمكان أن نعترف بالاحتياجات الطبيعية للجسد و الروح و ما لتلك الاحتياجات من جاذبية تشبه في أحيان كثيرة الجاذبية الأرضية ،  فالإنسان في هذه الأرض يعيش حالة من الحراك الدائم حول متطلبات الجسد و متطلبات الروح ، و ما ينبغي الالتفات إليه أن التركيز في هذا المجال يعني فيما يعنيه المحافظة على قدر من الاتزان في تلبية متطلبات الروح و الجسد و الموازنة بين الأرض و السماء  ، و يمكننا تخيل ثلاث دوائر الأولى تشير إلى الروح و الأخرى تشير إلى الأرض و بينهما دائرة في الوسط تمثل المجال الحيوي الذي ينبغي أن نبذل كل ما في وسعنا للمحافظة على الديمومة فيه و لا حرج من انجذاب آني إلى احد القطبين فالتركيز يعني المحافظة على الكينونة في قطر الدائرة و ليس في نقطة معينة منها و هو ما يعني التمسك بالحد المقبول من الالتزام بمفردات الشريعة الإسلامية المتعلقة بحياة الأرواح و حياة الأبدان أو بتعمير الدنيا و العمل للآخرة .
و قد يظن البعض أن الاستغراق في الفضاء الروحي غاية في ذاته و لو كان على حساب الجسد و الأرض ، و هو ما ذهبت إليه بعض الديانات و كذلك بعض الفرق فركزت على الروحانيات و ما يتصل بها من عبادات و شعائر ، و أهملت جانب الجسد و الشعائر المرتبطة بالأرض كالعبادات الاجتماعية و الحضارية و الإنسانية من جهاد و تعمير واستخلاف . 
ان سيرة المصطفى صلى الله عليه و سلم تجسد النموذج الكامل للموائمة بين أشواق الروح و احتياجات البدن فعن أنس رضي الله عنه قال :جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أ ُخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غــُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟؟ فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ،وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، ولكني أصوم و أُفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغبَ عن سنتي فليس مني "رواه البخاري.
و لقد توهم بعض الصحابة الكرام أن المؤمن الحق مطالب بالتوهج و الإشراق الروحي المتصل و ظنوا ان  الاشتغال بالدنيا و تفاصيلها و تلبية متطلبات الجسد و ملذاتها و شهواتها المشروعة  ضربا من الجنوح عن الصراط السوي و لونا من ألوان النفاق و سنكتفي بمثالين في ذلك :
1ـ عن ‏حنظلة الأسيدي ‏قال : ( ‏لقيني ‏ ‏أبو بكر ‏ ‏فقال كيف أنت يا ‏ ‏حنظلة ‏ ‏قال قلت نافق ‏ ‏حنظلة ‏، ‏قال سبحان الله ما تقول قال قلت : نكون عند رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏عافسنا ‏ ‏الأزواج والأولاد ‏ ‏والضيعات ‏ ‏فنسينا كثيرا  ، قال  ‏أبو بكر ‏ ‏فوالله إنا ‏ ‏لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا ‏ ‏وأبو بكر ‏ ‏حتى دخلنا على رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قلت نافق ‏ ‏حنظلة ‏ ‏يا رسول الله فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وما ذاك قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك ‏ ‏عافسنا ‏ ‏الأزواج والأولاد ‏ ‏والضيعات ‏ ‏نسينا كثيرا فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏‏والذي نفسي بيده إن ‏ ‏لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا ‏‏حنظلة ‏‏ ساعة وساعة ثلاث مرات )رواه مسلم.
2ـ روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ‏ ‏رضي الله عنهما ‏‏قال لي رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏:‏يا  ‏عبد الله ‏ ‏ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل فقلت بلى يا رسول الله قال فلا تفعل ‏‏صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا ....) ‏
هاشم بن ابراهيم العريمي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق