ـ بين الدنيا و الآخرة .
الانسان كائن معقد التركيب ... مبعثر
الهموم ... متقلب المزاج ... متغير الاهتمامات ...، و مهما درج الإنسان في سلم
العلم و التقنية ستظل هناك مساحات واسعة من عدم الإدراك الحقيقي لذاته الانسانية .
ان من الامتحانات و الابتلاءات العظيمة
التي اخضع الله لها هذا الإنسان المسلم امتحان التجاذب الدائم بين متطلبات الدنيا
و متطلبات الآخرة ، فهناك حالة دائمة من الجذب و الاستقطاب بين قطبي المعادلة
، و بما أن المسلم في حاجة دائمة لتلبية
احتياجات كل جانب و كذلك إيجاد حالة من التوازن و الانسجام فهو في اختبار مستمر متجدد
، و حالة الاتزان لا تعني التساوي او التوازي في إنفاق الوقت بين قطبي المعادلة ،
و لكنها تعني العدل و الانصاف في اعطاء كل جانب ما يستحقه من الوقت و العمل ، و
بما اننا لن نعيش الا مرة واحدة و بما ان موعد انقضاء رحلتنا على هذا الكوكب مجهولة
بالنسبة لنا فلا بد من استثمار هذه الرحلة و التركيز على أهم قطبي المعادلة
باعتباره أولوية ، و سوف اسعى خلال النقاط التالية تسليط الضوء على بعض المفاهيم
حول هذه الثنائية من خلال التالي :
ـ
أولا : الآخرة أولا :
إننا
بالتركيز على الآخرة نكسب الدنيا و لا نخسر الآخرة ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ :
1ـ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ .
2ـ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ .
3ـ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ .
ـ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ :
1ـ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ .
2ـ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ .
3ـ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا
إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ" اخرجه الترمذي و صححه الالباني
.
في الحديث الشريف إشارة مهمة إلى أننا
بالتركيز على الآخرة نكسب خير ما في الدنيا و الآخرة معا ، و بالتركيز على الدنيا
فإننا نخسر خير ما في الآخرة قطعا و قد لا نكسب الدنيا كذلك ، فلا بد من تقرير
حقيقة مهمة مفادها أن الآخرة غاية والدنيا وسيلة ، و يترتب على ذلك أهمية إعادة
النظر في حركتنا اليومية ... في غدونا و رواحنا ... و حركتنا و سكوننا ... و في أي
اتجاه نبذل أوقاتنا ... كما يترتب على ذلك أهمية النظر في نوايانا و مقاصدنا و مدى
تلاؤم جميع ذلك مع متطلبات الآخرة قال تعالى ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان
سعيهم مشكورا ) الإسراء (19) .
ـ
ثانيا : قوة التركيز على الآخرة لا يعني الانقطاع عن الدنيا بل يعني الخلود فيها !:
إن
قوة التركيز على الآخرة لا يعني ـ كما قد يفهم البعض ـ الانعزال عن الدنيا و
مشكلاتها و العكوف في دور العبادة ، كما انه لا يعني كذلك اتخاذ موقف سلبي من
الحياة ، بل انه يعني فيما يعنيه تسخير الملكات و الطاقات و القدرات و الإمكانيات
و الأوقات للتفاعل مع الحياة و القيام بما يصلحها و يصلحنا تحقيقا لقوله سبحانه و
تعالى ( وابتغ فيما
آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا و أحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله
لا يحب المفسدين ) سورة القصص الآية ( 77) و مما تقدم يتضح ان قوة التركيز على الآخر يعنى أن تدور
حياتنا الدنيوية في فلك أمور عظيمة مع نية خالصة و من أهم الامور التي ينبغي ان
تدور حياتها في فلكها ما يلي :
1.
القيام بحق العبودية لله ، و ذلك بإقامة
العبادات و الشعائر في أوقاتها و حسب مواصفاتها و مقاديرها المقررة شرعا .
2.
نصرة الدين و تمكينه و تحكيمه و نشر دعوته و
تعاليمه في العالمين .
3.
القيام بحق المستضعفين في الأرض من النصرة و رفع
الظلم و كبت المعتدين بالإضافة إلى تحريرهم من قهر العبودية المادية و العقدية
والفكرية و تمكينهم من اختيار الدين الذي يرتضونه دون إكراه من احد قال تعالى :
(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَاأَخْرِجْنَا مِنْ
هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا
مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا )
سورة النساء ﴿٧٥﴾
4.
البناء و التعمير و القيام بكل ما من شأنه
إحداث نوع من الصلاح و الإصلاح للأرض و من عليها و نبذ جميع أنواع و اشكال التخريب
و الإفساد في الأرض كل الأرض ، قال تعالى ( وَمِنَ
ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ
عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَام * وَإِذَا
تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ
وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ ) البقرة .
ـ و خلال عملنا للآخرة ينبغي ان لا ننسى اننا بشر
نعيش على وجه الأرض امتثالا لقوله تعالى ( ولا تنس نصيبك
من الدنيا )
أي لا يستغرقك العمل للآخرة فتنسى نفسك و أهلك و تحرمهم من حقوقهم
الواجبة من المتع و المباهج المشروعة في الدنيا بسبب انشغالك بالآخرة ... !!!
ثالثا : العمل في الدنيا لا العمل للدنيا :
ان
المعاني المتعلقة بهذه المعادلة ان نركز في أعمالنا على الأرض لتحقيق مصلحة الآخرة
و لا يكون عملنا للدنيا غاية في ذاته ، لأن الدنيا فانية و الآخرة باقية ، و لا
يمكننا تحقيق هذه المعادلة إلا بأن يكون لنا في الدنيا عمل حقيقي رائد ، و بصمة
حضارية راسخة و مميزة ، و مبادرة جادة لإدارة و توجيه دفة الحياة باتجاه الطهارة و
الإيمان ، و القوة و الرحمة ، و الصفاء و النقاء ، و تحقيق مزيدا من الرفاهية مع
العدل و المساواة للبشرية ، و لا بد أن يكون جميع ذلك قائم على أرضية صلبة من النية
الخالصة و العقيدة الراسخة التي توجه سلوكنا و تضبط انجازنا ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا
صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدها) ، و من
خلال حجم العمل الذي سنبذله و جودته و درجته و أهميته و مقدار التضحيات لأجله و صدق النوايا
فيه نشتري مواضعنا من الجنة و نتخير درجاتنا فيها قال تعالى ( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض
نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) الزمر(74) .
رابعا : المكان و الزمان و الادوار :
ان حركة الإنسان مقيدة بقيد المكان المتمثل في الأرض ، و
مقيد بقيد الزمان المتمثل في العمر ، و بما ان الإنسان لا يختار مكان ولادته و
نشأته الأولى ، كما انه لا يعرف مدة عمره و بقائه في الدنيا ، كما انه لا يختار
الظروف و التحديات التي يجب عليه مواجهتها و حلها ، كل ذلك يجعلنا نفهم ان التركيز
على الآخرة لكل واحد منا قد يقتضي منه القيام بدور أو الدخول في مغامرة مختلفة عن
الآخر أحيانا مع الاتفاق على بعض الثوابت ... فمن توجده الظروف في بيئة تعاني من
الجهل فقد يكون سعيه للآخرة يتم عبر بوابة التعليم و رفع الجهل ... و من كان في
بيئة تعاني من الانقسام و الاختلاف فيمكنه ان يسعى للآخرة عبر بوابة التأليف و
التقريب و تحقيق الوحدة ... و من كان في بيئة متخلفة خرافية فقد يسعى إلى الآخرة
عن طريق تقويم الفكر و الارتقاء بالعقول ... و من كان في بيئة ظالمة تنتهك فيها
الحرمات و تهضم الحقوق و يظلم الناس و تصادر حرياتهم فقد يكون سعيه إلى الآخرة
عبرة بوابة الجهاد المادي أو المعنوي من خلال الإنكار الفعلي او القولي او
القلبي ، و هكذا مع الاتفاق في جميع الأحوال
على ان يكون ذلك السعي لله و بالله ...فعندما
سئل النبي صلى الله عليه و سلم : عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل
رياء أي ذلك في سبيل الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( من قاتل لتكون كلمة الله
هي العليا فهو في سبيل الله ) و قياسا على ذلك نقول : من عاش لتكون كلمة الله
هي العليا فهو في سبيل الله ... ، كما ينبغي كذلك ان تكون روح
الإخلاص حاضرة ...متوقدة ... تظلل تلك الأعمال و تحفظها من النفاق و الرياء و
بهارج الدنيا.
ـ ان مضمون هذه الكلمة هو ترجيح العمل للآخرة و التركيز
عليها على العمل للدنيا مع بيان مظاهر ذلك التركيز و كيفية تحويل نشاطاتنا اليومية
الى عمل جاد للآخرة من خلال صدق النوايا دون ان ننسى نصيبنا من الدنيا .
ـ إضاءة : ان الطموحات الكبيرة تحتاج لأعمال
كبيرة ... و الأعمال الكبيرة تحتاج لعقول كبيرة ... والعقول الكبيرة تحتاج لنفوس
كبيرة ... و النفوس الكبيرة تحتاج ليقين كبير و تركيز كبير و صبر كبير قال تعالى (
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا
يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم: 60) .
هاشم العريمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق